حروب الردة.. حماية مجتمع قام على تقوى من الله ( تقرير)
توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والإسلام بنيان شامخ يقوم على أسس راسخة عميقة الجذور في قلوب أتباعه وداخل المجتمع المسلم.
وكما يقول سيد قطب فقد تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي؛
فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى
الجاهلية مرة أخرى؛ وكان هذا النوع قليلاً، فقد كان الأمر كله معروفاً
مكشوفاً من قبل؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى
الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب، إلا العناصر المختارة الممتازة
الفريدة التكوين.
وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة؛ ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة؛
ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين
من الأنصار، الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها
المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بيعة العقبة)
قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين".
إلا
أنه بعد وفاة رسول الله ظهرت محاولات خلخلة الأسس التي قام عليها الإسلام
لهدم بنيانه، وتمثلت تلك المحاولات بظاهرة الردة التي انتشرت في بعض
القبائل العربية.
وأدرك
الصحابة أن دعوة الإسلام لن تتم ولن تنتشر في ظل هذا الخطر؛ ولهذا كانت
الأولوية الأولى هي حماية المجتمع المسلم من الخطر الداخلي والمحافظة على
أسس الدين وتهيئة الأرض الصلبة التي ستنطلق منها الدعوة الإسلامية.
وفي
هذا التقرير شرح مختصر لواقع الردة في عهد الخليفة الصديق، وبيان منهج
الصدّيق الصحابة – رضي الله عنهم – في التعامل مع هذا الخطر، وأثر ذلك على
مستقبل الإسلام.
صفات المجتمع الإسلامي في عصر الصديق
تميز
المجتمع المسلم في صدر الخلافة الراشدة بمجموعة من السمات أهلته للثبات على
دينه وحمايته من أعظم المخاطر التي حاطت به من كل جانب، وأهمها خطر الردة، ومن بين هذه السمات:
1- أنه - في عمومه - مجتمع مسلم بكامل معنى الإسلام،
عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق لتعاليم الإسلام بجدية واضحة،
والتزام ظاهر، وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التاريخ.
فالدين
بالنسبة له هو الحياة، وليس شيئاً هامشياً يفيء الناس إليه بين الحين
والحين، إنما هو حياة الناس وروحهم، ليس فقط فيما يؤدونه من شعائر تعبدية
يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح، وإنما من أخلاقياتهم، وتصوراتهم
واهتماماتهم، وقيمهم، وروابطهم الاجتماعية، وعلاقات الأسرة وعلاقات الجوار،
والبيع والشراء، والضرب في مناكب الأرض والسعي وراء الأرزاق، وأمانة
التعامل، وكفالة القادرين، لغير القادرين، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والرقابة على أعمال الحكام والولاة.
ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف، فهذا لا يتحقق في الحياة الدنيا، ولا في أي مجتمع من البشر.
وقد
كان في مجتمع الرسول - كما ورد في كتاب الله - منافقون يتظاهرون بالإسلام،
وهم في دخيلة أنفسهم من الأعداء، وكان فيه ضعاف الإيمان، والمعوّقون،
والمتثاّقلون، والمبطّئون، والخائنون، ولكن هؤلاء جميعاً لم يكن لهم وزن في
ذلك المجتمع، ولا قدرة على تحويل مجراه؛ لأن التيار الدافق هو تيار أولئك
المؤمنين الصادقي الإيمان المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم،
الملتزمين بتعاليم هذا الدين.
2- أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستوى المعنى الحقيقي (للأمة)، فليست
الأمة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة ووحدة الأرض ووحدة
المصالح، فتلك هي الروابط التي تربط البشر في الجاهلية، فإن تكونت منهم
أمة فهي أمة جاهلية، أما الأمة بمعناها الرباني فهي الأمة التي تربط بينها
رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة والجنس واللون، ومصالح الأرض القريبة
وهذه لم تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في الأمة الإسلامية.
فالأمة الإسلامية هي التي حققت معنى الأمة أطول فترة من الزمن عرفتها الأرض،
أمة لا تقوم على عصبية الأرض ولا الجنس ولا اللون ولا المصالح الأرضية،
إنما هو رباط العقيدة، يربط بين العربي والحبشي والرومي والفارسي، يربط بين
البلاد المفتوحة والأمة الفاتحة على أساس الأخوة الكاملة في الدين ولئن
كان معنى الأمة قد حققته هذه الأمة أطول فترة عرفتها الأرض، فقد كانت فترة
صدر الإسلام أزهى فترة تحققت فيها معاني الإسلام كلها، بما فيها معنى
الأمة، على نحو غير مسبوق.
3- أنه مجتمع أخلاقي، يقوم
على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين وتوجيهاته، وهي قاعدة لا
تشمل علاقات الجنسين وحدها، وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع، فهو
خالٍ من التبرج، ومن فوضى الاختلاط وخال من كل ما يخدش الحياء من فعل أو
قول أو إشارة وخال من الفاحشة إلا القليل الذي لا يخلو منه مجتمع على
الإطلاق، ولكن القاعدة الأخلاقية أوسع بكثير من علاقات الجنسين، فهي تشمل
السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتعبير، فالحكم قائم على أخلاقيات
الإسلام، والعلاقات الاقتصادية من بيع وشراء وتبادل واستغلال للمال قائمة
على أخلاقيات الإسلام، وعلاقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والأمانة
والإخلاص والتعاون والحب، لا غمز ولا لمز ولا نميمة ولا قذف للأعراض.
4- أنه مجتمع جاد، مشغول
بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وليس الجد بالضرورة عبوساً وصرامة، ولكنه روح
تبعث الهمة في الناس، وتحث على النشاط والعمل والحركة، كما أن اهتمامات
الناس هي اهتمامات أعلى وأبعد من واقع الحس القريب، وليست فيه سمات المجتمع
الفارغة المترهلة، التي تتسكع في البيوت وفي الطرقات، تبحث عن وسيلة لقتل
الوقت من شدة الفراغ.
5- أنه مجتمع مجند للعمل،
في كل اتجاه تلمس فيه روح الجندية واضحة لا في القتال في سبيل الله فحسب،
وإن كان القتال في سبيل الله قد شغل حيزاً كبيراً من حياة هذا المجتمع،
ولكن في جميع الاتجاهات، فالكل متأهب للعمل في اللحظة التي يطلب منه فيها
العمل ومن ثم لم يكن في حاجة إلى تعبئة عسكرية ولا مدنية، فهو معبأ من
تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدافعة لبذل النشاط في كل اتجاه.
6- أنه مجتمع متعبد،
تلمس روح العبادة واضحة في تصرفاته ليس فقط في أداء الفرائض، والتطوع
بالنوافل ابتغاء مرضاة الله، ولكن في أداء الأعمال جميعاً، فالعمل في حسه
عبادة، يؤديه بروح العبادة، الحاكم يسوس رعيته بروح العبادة، والمعلم الذي
يعلم القرآن ويفقه الناس في الدين يعلم بروح العبادة، والتاجر الذي يراعي
الله في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة، والزوج يرعى بيته بروح
العبادة، والزوجة ترعى بيتها بروح العبادة، تحقيقاً لتوجيه رسول الله: كلكم
راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
هذه
من أهم سمات عصر الصديق الذي هو بداية الخلافة الراشدة، وهذه السمات
جعلته مجتمعاً مسلماً في أعلى آفاقه، وهي التي جعلت هذه الفترة هي الفترة
المثالية في تاريخ الإسلام، كما أنها هي التي ساعدت في نشر هذا الدين
بالسرعة العجيبة التي انتشر بها، فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح
في التاريخ كله، بحيث شملت في أقل من خمسين عاماً أرضاً تمتد من المحيط
غرباً إلى الهند شرقاً، وهي ظاهرة في ذاتها تستحق التسجيل والإبراز، وكذلك
دخول الناس في الإسلام في البلاد المفتوحة بلا قهر ولا ضغط، وقد كانت تلك
السمات التي اشتمل عليها المجتمع المسلم هي الرصيد الحقيقي لهذه الظاهرة،
فقد أحب الناس الإسلام لما رأوه مطبقاً على هذه الصورة العجيبة الوضاءة،
فأحبوا أن يكونوا من بين معتنقيه.
أسباب الردة وأصنافها
الردة التي قامت بها القبائل العربية بعد وفاة رسول الله لها أسباب، منها:
الصدمة
بموت رسول الله، رقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية
ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، العصبية
القبلية، الطمع في الملك، التكسب بالدين والشح بالمال، التحاسد، المؤثرات
الأجنبية كدور اليهود والنصارى، والمجوس.
وأما أصنافها:
فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً وعاد إلى الوثنية، وعبادة الأصنام،
ومنهم من أدعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف
بالإسلام ويقيم الصلاة، ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت
الرسول وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على
من تكون الدبرة، وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير.
قال الخطابي:
إن أهل الردة كانوا صنفين: صنفاً ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا
إلى الكفر. وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم
الذين صدقوه على دعواه في النبوة وأصحاب الأسود العنسي، ومن كان من
مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا محمد
مدعية النبوة لغيره.
والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية.
والصنف
الآخر هم الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض
الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من
كان يسمح بها ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك وقبضوا أيديهم على
ذلك.
وقريب من هذا التقسيم لأصناف المرتدين تقسيم القاضي عياض، غير أنهم عنده ثلاثة:
صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل
منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة
وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي.
وقسّم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى أربعة أصناف:
صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين بالكذبة،
الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم
ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر.
الردة أواخر عصر النبوة
بدأت
هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي
أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه
من أصقاعها المختلفة. وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لم تظهر بشكل
واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري، وهو عام حجة الوداع التي
حجها رسول الله، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر
يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرأ الذين
في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب
باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه.
ولما
كان أخطر متمردين على الإسلام، وهما الأسود العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان -
كما يبدو- على المضي في طريق ردتهما قدماً دون أن يفكرا في الرجوع،
وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة، فقد أرى الله نبيه من أمرهما
ما تقر به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده.
فقد قال يوماً وهو يخطب على منبره: أيها
الناس، إني قد رأيت ليلة القدر، ثم أُنسيتها، ورأيت في ذراعي سوارين من
ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما الكذابين: صاحب اليمن، وصاحب
اليمامة.
وقد
فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة فقالوا: إن نفخه لهما
يدل على أنهما يقتلان بريحه؛ لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإن وصفه لهما بأنهما
من ذهب دلالة على كذبهما؛ لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين
على أنهما ملكان؛ لأن الأساورة هم الملوك، ودلاّ بكونهما يحيطان باليدين
أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة، لكون السوار مضيقاً على الذراع.
وعبّر
الدكتور علي العتوم بقوله: بأن طيرانهما بالنفخ دلالة على ضعف كيدهما مهما
تضاخم فشأنهما زبد لابد أن يؤول إلى جُفاء مادام هذا الكيد مستمداً من
الشيطان، فهو واهن لا محالة، إذ أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما أثراً
بعد عين، وكونهما من ذهب دلالة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لأن
الذهب رمز لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه، وأنهما سواران إشارة إلى
محاولتهما الإطاحة بكيان المسلمين عن طريق الإحاطة بهم من كل جانب، تماماً
كم يحيط السوار بالمعصم.
موقف الصديق من المرتدين
لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"الحمد
لله الذي هدى فكفى وأعطى فأغنى إن الله بعث محمداً، والعلم شريد، والإسلام
غريب طريد، قدرت حبله، وخلق ثوبه، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب
فلا يعطيهم خيراً لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شراً لشر عندهم، وقد غيروا
كتابهم، وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من
الله، لا يعبدونه، ولا يدعونه، فأجهدهم عيشاً، وأظلهم ديناً في ظلف الأرض
مع ما فيه من سحاب، فختمهم الله بحمد وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن
اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه
الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ
فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [سورة
آل عمران، الآية:144].
إن من
حولكم من الأعراب قد منعوا شاتهم، وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم، وإن
رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا،
على متقدم من بركة نبيكم وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً
فهداه، وعائلاً فأغناه {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران، الآية: 103].
والله
لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل
من قتل شهيداً من أهل الجنة، ويبقى منها خليفته وذريته في أرضه قضاء الله
الحق، وقوله الذي لا خلف له {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور، الاية 55]".
وقد
أشار بعض الصحابة - ومنهم عمر - على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة
ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق
عن ذلك وأباه، فعن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله وكان أبو بكر،
وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد
قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم
مني ماله، ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن
من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني
عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها. وفي رواية: والله
لو منعوني عقالاً، كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه. قال
عمر فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق. ثم
قال عمر بعد ذلك؛ والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعاً في
قتال أهل الردة.
وبذلك
يكون أبو بكر قد كشف لعمر (وهو يناقشه) عن ناحية فقهية مهمة أجلاها له،
وكانت قد غابت عنه وهي أن جملة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي أحتج به
عمر هي الدليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى وإن نطق بالشهادتين وهي
قول النبي: فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وفعلاً كان
رأي أبو بكر في حرب المرتدين رأياً ملهماً، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة
الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع
والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي
بكر لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء،
ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فساداً.
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح،
إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور
الصواب له وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر في حياته كلها، ولقد
اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.
لقد
كان أبو بكر أبعد الصحابة نظراً، وأحقهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه
الطامة العظيمة، والمفاجئة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب رحمه
الله: وكان أفقهم، يعني الصحابة، وأمثلهم رأياً.
كان
موقف أبي بكر الذي لا هوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل، موفقاً ملهماً
من الله، يرجع إليه الفضل الأكبر - بعد الله تعالى - في سلامة هذا الدين
وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ
بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية، ومحاولة نقض عرى الإسلام
عروة عروة، موقف الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى
أبو بكر حقها واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله الأرض
وأهلها.
خطة الصديق لحماية المدينة
[center]
انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه، وقد خرجت بأمرين:
أ- أن قضية منع الزكاة لا تقبل المفاوضة، وأن حكم الإسلام فيها واضح؛ ولذلك لا أمل في تنازل خليفة المسلمين عن عزمه ورأيه وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل.
ب-
أنه لابد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين - كما يظنون - وقلة عددهم لهجوم
كاسح على المدينة يسقط الحكم الإسلامي فيها ويقضي على هذا الدين.
قرأ
الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسة وتفرس فيها اللؤم
فقال لأصحابه: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون
أَليْلاً تؤتون أم نهاراً! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن
نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا
وأعدوا.
ووضع الصديق خطته على الوجه التالي:
أ- ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع.
ب- نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها حتى يدفعوا أي غارة قادمة.
ج-
عين على الحرس أمراؤهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن
عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي
الله عنهم.
هـ-
وبعث أبو بكر إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام، من أسلم
وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة وكعب، يأمرهم بجهاد أهل الردة فاستجابوا له،
حتى امتلأت المدينة المنورة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها
تحت تصرف الصديق، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها
للصديق، أن جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم
الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزعها
أبو بكر في الناس.
و-
ومن ابتعد من المرتدين عن المدينة، وأبطأ خطره، حاربه بالكتب يبعث بها إلى
الولاة المسلمين في أقاليمهم كما كان رسول الله يفعل، يحرضهم على النهوض
لقتال المرتدين، ويحث الناس على القيام معهم في هذا الأمر، ومن أمثلة ذلك
رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنسي التي قال فيها: أما
بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم، وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجدوا
معه، فإني قد وليته.
وقد
أثمرت هذه الرسالة، وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز، يعاونهم
إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على العصاة المارقين حتى رد الله كيدهم
إلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرج إلى جادة الحق.
ز-
وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس وذبيان فإنه لم ير بداً
من محاربتهم على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول
الله، فكان أن آوى الذراري والعيال إلى الحصون والشعاب، محافظة عليهم من
غدر المرتدين، واستعد للنزال بنفسه ورجاله.
فشل أهل الردة في غزو المدينة
بعد
ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان
وبكر المدينة ليلاً وخلفوا بعضهم بذي حُسىَ، ليكونوا لهم ردءاً، وانتبه
حرس الأنقاب لذلك وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أن ألزموا أماكنكم،
ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم فانفشَّ العدو، فاتبعهم
المسلمون على إبلهم.
وقال عبدالله الليثي وكانت بنو عبد مناة من المرتدة -وهم بنو ذبيان- في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حسى:
أطعنا رسول الله ماكان بيننا ... فيا لعباد الله مـــا لأبــــي بكر
أيورثها بكراً إذا مــات بعده ... وتلك لعمر الله قاصمة الظـهر
فهــلا رددتم وفدنــا بزمانه ... وهلا خشيتم حسَّ راغبة البكر
وإنَّ التــي سالُوكُــمُ فمنعتُمُ ... لكالتَّمْر أو أحلى إليّ من التمـر
فظنّ
القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصَّة بالخبر، فقدموا عليهم
اعتماداً في الذين أخبروهم، وهم لا يشعرون لأمر الله عز وجل الذي أراده،
وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبَّى الناس، ثم خرج على
تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النُّعمان بن مُقرِّن، وعلى
ميسرته عبدالله بن مقرن، وعلى الساقة سُويد بن مقرن معه الرُّكاب فما طلع
الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همساً ولاحسّاً
حتى وضعوا فيهم السيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذرَّ قرن الشمس حتى
ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامّة ظهرهم، وقتل حبالُ - أخو طليحة الأسدي -
واتبعهم أبو بكر، حتى نزل بذي القُصَة - وكان أول الفتح - ووضع بها
النعمان بن مقرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون، فوثب بنو
ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين، فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم
فعلهم، وعزَّ المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل
قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وأن يؤدب هؤلاء
الحاقدين.
ونفذ
قسمه وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتاً على دينهم، وازداد المشركون
ذلاً وضعفاً وهواناً وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة.
وفي
ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع
على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: (نذير) فيقول أبو بكر: (بل بشير)،
وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه، فيقول الناس لأبي بكر: طالما بشرتنا
بالخير.
وخلال
هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء، وشيئاً من الثراء، عاد أسامة ابن
زيد بجيشه ظافراً، وصنع كل ما كان الرسول قد أمره به، وما أوصاه به أبو
بكر الصديق، فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وقال له ولجنده أريحوا وأريحوا
ظهركم، ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على
ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تُعرض
نفسك، فإنك إن تُعَب لم يكن للناس نظام ومقامك أشد من العدو، فابعث رجلاً،
فإن أصيب أمّرت آخر. فقال: لا والله لا أفعل ولأواسينّكم بنفسي.
لقد
ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي
يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوة في أعماله، فكان من آثار
هذه السياسة الحكيمة أن تقوّى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم، واستجابوا
لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة.
وهكذا
يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه
بأي أمر من أمور الدنيا، وما اضطربت أمور المسلمين منذ زمن، إلا
لأنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه، وباباً لجلب المغانم ودرء
المغارم، وإيثاراً للعافية، والاكتفاء بالكلمات تزجى من وراء أجهزة
الإعلام، أو من غرف العمليات، بعيداً عن المشاركة مشاركة حقيقية في قضايا
الأمة المختلفة.
وقد
جاء في إحدى هذه الروايات أن ضرار بن الأزور - حينما أخبر أبا بكر الصديق
بخبر تجمع طليحة الأسدي - قال: فما رأيت أحد - ليس رسول الله - أملأ بحرب
شعواء من أبي بكر، فجعلنا نخبره ولكأنما نخبر بماله ولا عليه.
وهذا
وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ والثقة التامة بوعد
الله تعالى لأوليائه بالنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، فأبو بكر لم
يَفُق الصحابة بكبير عمل وإنما فاقهم بحيازة الدرجات العلى من اليقين رضي
الله عنهم أجمعين.
وقد
روى أنه لما قيل له: لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاظها
وما نراك ضعفت. فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي لما رأى
حزني قال: لا عليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام.
الهجوم الشامل على المرتدين
تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين، فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم،
فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم
مقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به، وكانت الخطوة الأولى بالكلمة، ولم تكن
الكلمة في يوم من الأيام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها؛ لأنها تستتبع
مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة، وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى الذبح من
أجل الشهادة للكلمة التي قالها، ففي كل قبيلة حصلت فيها ردة كانت هناك بعض
المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق وتغذت به وعاشت عليه هي التي رأت باطل
ما يفعله كل قوم؛ ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير
الذي ينتظرهم، فما كان من قومهم إلا أن وقفوا في وجوههم ساخرين مستهزئين،
ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم بل وقتلهم في بعض الأحيان، ونجح بعضهم
بالكلمة، كعدي بن حاتم مع قومه، والجارود مع أهل البحرين.
وعندما
فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحولوا إلى تجمعات مسلمة ثابتة على
إسلامها واتخذت لها الموقف المناسب ضد أقوامهم المرتدين، وكثير من المواقف
بدأت بالكلمة، ثم انتهت إلى العمل، كما حصل لمن ثبت من بني سليم، فقد
حذرهم قومهم فانقسموا إلى قسمين، ثابت ومرتد. فتجمع الثابتون وصاروا
يجالدون قومهم المرتدين.
وقام
الأبناء في اليمن سراً بتدبير قتل الأسود العنسي بعد أن كان موقفهم سلبياً
في بطش الأسود العنسي، ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس الكندي ينصح
الأشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة، ودخل بينهما حوار طويل وتحد متبادل،
وهكذا صارت بعض المواقف سبباً في إرجاع قومهم عن الردة أو في تسهيل مهمة
جيوش الدولة الإسلامية القادمة للقضاء على الردة.
لقد
اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على الله تعالى، ثم على ركائز
قوية من القبائل والزعماء والأفراد الذين انبثوا في كافة أنحاء الجزيرة
العربية، وثبتوا على إسلامهم، وقاموا بأدوار مهمة ورئيسية في القضاء على
فتنة الردة.
وانتقد الصلابي بعض الكتاب الذين تناولوا فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم الدقة أو عدم الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية.
وقال:
إن من الحقائق الأساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة لكل الناس
كشمولها الجغرافي، بل إن هناك قادة وقبائل وأفراد وجماعات وأفراد تمسكوا
بدينهم في كل منطقة من المناطق التي ظهرت فيها الردة.
وذكر
أن الدكتور مهدي رزق الله أحمد قام بدراسة عميقة، وأجاب على سؤال طرحه
وهو: هل كانت الردة في عهد الخليفة أبي بكر شاملة لكل القبائل العربية
والأفراد والزعماء الذين كانوا مسلمين؟، أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض
القبائل وبعض الزعماء وبعض الأفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟. وبعد البحث
قال: إن أول حقيقة تستخلص.. هي أنني لم أجد ما يدل على أن القبائل
والزعماء والأفراد قد ارتدوا جميعاً على الإسلام، كما ذكر أولئك النفر
الذين جعلناهم مثالاً. بل وجدت أن الدولة الإسلامية اعتمدت على قاعدة صلبة
من الجماعات والقبائل والأفراد الذين ثبتوا على الإسلام وانبثوا في كافة
أنحاء الجزيرة وكانوا سنداً قوياً للإسلام ودولته في قمع حركة المرتدين
منهم.
المواجهة الرسمية
1- وسيلة الإحباط من الداخل
كان
رسول الله قد استعمل هذه الوسيلة فقام بمراسلة وبعث الرسل إلى قبائل
المتنبئين لتجميع الثابتين على الإسلام، وليشكل بهم جماعة تحارب الردة.
وسار الصديق على نفس المنهج، وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه
من بؤر المرتدين، وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها،
واستطاع أن يتصل بالثابتين على الإسلام وجعل منهم رصيداً للجيوش المنظمة،
فقد كان يعد الأمة لمواجهة منظمة مع المرتدين بعد عودة جيش أسامة. وراسل
الصديق زعماء الردة والثابتين على الإسلام ليحقق بعض الأهداف، ككسب الوقت
حتى يرجع جيش أسامة، فكتب إلى من كتب إليهم رسول الله باليمن وغيرها،
ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى الإسلام، وطلب من الثابتين التجمع في
مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره. وكان هذا الترتيب بداية للخطة العسكرية
القادمة، وقد حالف التوفيق بعض الثابتين بالوصول إلى المدينة ومعهم
صدقاتهم مثل عدي بن حاتم الطائي، والزبرقان بن بدر التميمي، وتمكن
الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي، وبعض التجمعات القبلية في
تهامة وبلاد السراة ونجران وقد حققت هذه الوسيلة بعض النتائج، منها:
أ-
نجحت خطة الصديق في تحقيق حملات التوعية والدعاية والتعضيد للمسلمين،
والتخذيل لقوى المرتدين، تمهيداً لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوفر لها
الإمكانات، وهي أداة الجيوش المنظمة.
ب-
حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على الإسلام ليكونوا قواداً
في حركة الفتوح الإسلامية فيما بعد، كعدي بن حاتم الطائي أحد قواد فتوح
العراق.
جـ- تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها لهم الصديق لتنظم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة.
د- القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة مثل ما حصل في جنوب الجزيرة العربية.
2- إرسال الجيوش المنظمة
لما
وصل جيش أسامة بعد شهرين - وقيل أربعين يوماً - من مسيرهم واستراحوا خرج
أبو بكر الصديق بالصحابة رضي الله عنهم إلى (ذي القَّصَّة)، وهي على مرحلة
من المدينة، وذلك لقتال المرتدين والمتمردين، فعرض عليه الصحابة أن يبعث
غيره على القيادة وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة وألحُّوا
عليه بذلك، ومما رُوي في هذا الموضوع ما قالته عائشة: خرج أبي شاهراً سيفه
راكبا راحلته إلى وادي ذي القصة، فجاء علي بن أبي طالب، فأخذ بزمام
راحلته فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله يوم
أحد، لُمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام
بعدك نظام أبداً.
فرجع
وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء، وجعل على كل لواء
أميراً، وأمر كل أمير جند باستنفار من مرّ به من المسلمين التابعين من أهل
القرى التي يمر بها وهم:
1- جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد ثم إلى تميم ثم إلى اليمامة.
2- جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة، ثم إلى عمان والمهرة، فحضرموت، فاليمن.
3- جيش شرحبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة ثم حضرموت.
4- جيش طريفة بن حاجز إلى بني سليم من هوازن.
5- جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة.
6- جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
7- جيش العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
8- جيش حذيفة بن محصن الغلفاني إلى عمان.
9- جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة.
10- جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن (صنعاء ثم حضرموت).
11- جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن.
وهكذا اتخذت قرية (ذي القصة) مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاء عليها،
وتنبئ خطة الصديق عن عبقرية فذة، وخبرة جغرافية دقيقة، ومن خلال تقسيم
الألوية وتحديد المواقع يتضح أن الصديق كان جغرافياً دقيقاً خبيراً
بالتضاريس، والتجمعات البشرية، وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأن الجزيرة
العربية صوّرت مجسم واضح نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث وسائل
التقنية، فمن يتمعَّن تسيير الجيوش ووجهه كلِّ منها، واجتماعها بعد
تفرُّقها، وتفرقها لتجتمع ثانية، يرى تغطية سليمة رائعة صحيحة مثالية لجميع
أرجاء الجزيرة، مع دقة في الاتصال مع هذه الجيوش، فأبو بكر في كل ساعة
يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم دقائق أمورها وتحركاتها، وما حققت، وما عليها
في غد من واجبات، والمراسلات دقيقة وسريعة، تنقل أخبار الجبهات إلى مقرِّ
القيادة في المدينة حيث الصديق، وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها، وبرز
من المراسلين العسكريين مابين الجبهات وبين مقرِّ القيادة: أبو خيثمة
النَّجَّاري الأنصاري، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلمي، وسلمة بن وقش.
وكان
اللواء الركن الدكتور محمّد ضاهر وتر قد تحدث عن شخصية أبي بكر
العسكريّة، وقال إن الصديق ما أن استلم القيادة حتى تبين أنه رجل على قدر
كبير من اتخاذ المواقف الحازمة؛ فقد اتخذ موقفاً صلباً ضد أولئك
الذين تهاونوا أو ترددوا في بعث أسامة، وضد أولئك العرب المرتدين الذين
فرقوا بين أركان الإسلام، وكذلك فإنه قرر فتح جبهة العراق ثم الشام، وخرج
من حدود شبه جزيرة العرب ليسجل العرب أمجاداً وعزة وكرامة.
وقد
شكل قراره هذا منعطفاً تاريخياً في حياة العرب إلى يومنا هذا. أهذا الرجل
الوديع اللطيف الذي حمل جسماً نحيفاً، تخرج منه هذه القرارات وهذه المواقف
الحازمة؟، إن أحداً لن يصدق بهذا سوى الذين عرفوه عن كثب، وخبروه عن
تجربة. ومما زاد في نجاح حزمه شجاعته التي كان يتصف بها؛ فقد قاد وحده
معارك ذي القصة والربذة. وقد شهد بهذه الشجاعة علي ابن أبي طالب. وإذ قلنا
بأنه صاحب العقل والحكمة؛ فإنما نعني من ذلك الرجل الذي أعلن عن موت
الرسول صلى الله عليه وسلم حين وجل عمر والناس، وغابوا عن وعيهم، وذلك
الرجل الذي أعلن عن خلافة عمر من بعده.
من
أركان القيادة الأساسية – والكلام لا يزال للدكتور وتر - ومن مقوّمات
الشخصية العسكرية العلم؛ فقد كان أبو بكر مثقفاً عالماً بزّ الصحابة،
واعترفوا له بهذا الفضل، ورجعوا إليه في كل مسألة غامضة، كما كان على اطلاع
واسع بالحروب، وبالخبرة القتالية، ويظهر ذلك من تعليماته القتالية لقادة
جيوشه، ومن حسن تنفيذه وتوجيهه الجيوش وقيادتها على المستويين التكتيكي
والإستراتيجي، والمناورة بها على جبهات واسعة وبعيدة، وتخطيطه لها في قتال
التلاقي ولاسيما في العراق.
وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة وهي إحدى إنجازات الدولة المهمة، إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارة القيادة وبراعة التنظيم،
فضلاً عن الخبرة في القتال صهرتها الأعمال العسكرية في حركة السرايا
والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن النبي، فقد كان الجهاز
العسكري لدولة الصديق متفوقاً على كل القوى العسكرية في الجزيرة، وكان
القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية
الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.
كان
هذا التوزيع للجيوش وفق خطة إستراتيجية مهمة مفادها أن المرتدين لايزالون
متفرقين كلٌّ في بلده ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل
الكبيرة المتباعدة في المكان أولاً؛ لأن الوقت لم يكن كافياً للقيام بعمل
كهذا، حيث لم يمض على ارتدادهم إلا ما يقرب من ثلاثة شهور، وثانياً لأنهم
لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعاً في شهور
معدودة، ولذلك أراد الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم
وقوتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم، فعاجلهم قبل استفحال فتنتهم، ولم
يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم، ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم
الإسلامي وبذلك طبق الحكمة القائلة:
لا تقطَعَنْ ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنبا
فقد
أدرك حجم الحدث وأبعاده، ومدى خطورته، وعلم أنه إن لم يفعل كذلك فسيوشك
الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق الأخضر واليابس كما قال الأول:
أرى تحت الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون له ضرام
فقد كان السياسي الماهر والعسكري المحنَّك الذي يقدر الأمور ويضع لها الخطط المباشرة.
انطلقت
الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد مصحوبة بدعوات
خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت معاني الإيمان ومن حناجر لم تلهج
إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله جل وعلا هذه الدعوات النقية، فأنزل
عليهم نصره وأعلى بهم كلمته وحمى بهم دينه حتى دانت جزيرة العرب للإسلام
في شهور معدودة.
وقد
كتب أبو بكر الصديق كتاباً واحداً إلى قبائل العرب من المرتدين
والمتمردين، فدعاهم إلى العودة إلى الإسلام وتطبيقه كاملاً كما جاء من عند
الله تعالى ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ما هم عليه في
الدنيا والآخرة، وكان قوياً في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة
انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لابد من إنذار شديد يتبعه
عمل جريء قوي لإزالة الطغيان الذي عشَّش في أفكار زعماء تلك القبائل
والعصبية العمياء التي سيطرت على أفكار أتباعهم.
وهذا نص الخطاب الذي أرسله الصديق إلى من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه:
"بسم
الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله إلى من بلغه كتابي هذا من
عامة وخاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم
يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا
هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله،
نُقرُّ بما جاء به، ونكفِّر من أبى ونجاهده. أما بعد، فإن الله تعالى أرسل
محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه
وسراجاً منيراً، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فهدى الله
بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله بإذنه من أدبر عنه حتى صار إلى
الإسلام طوْعاً وكَرهاً. ثم توفى الله رسوله وقد نفذ لأمر الله، ونصح
لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب
الذي أنزل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر،
آية:30]، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء، آية:34]، وقال
للمؤمنين :{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [سورة آل عمران، آية:144]، فمن كان
إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له
فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ
لأمره، منتقم من عدوه.. وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما
جاءكم به نبيكم، وأن تهتدوا بهُداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم
يهده الله ضال، وكل من يعافه مُبْتلى، وكل من لم يُعنه الله مخذول، فمن
هداه الله كان مهتدياً ومن أضله كان ضالاً، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ
اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا
مُرْشِدًا} [سورة الكهف، آية:17]. ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقربه،
ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه
بعد أن أقرّ بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله، وجهالة بأمره، وإجابة
للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ
لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [سورة الكهف، آية:50]،
وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا
إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة
فاطر، آية:6]، وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار
والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية
الله، فمن استجاب له وأقر وكفّ وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى
أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يُبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم
بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا
سلام، فمن تبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجز الله. وقد أمرت رسولي أن
يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان: فإذا أذن المسلمون فأذَّنوا
كُفُّوا عنهم، وإن لم يؤذّنوا عاجلوهم،وإن أذَّنوا اسألوهم ما عليهم، فإن
أبوا عاجلوهم، وإن أقرّوا قبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم".
ويوضح الصلابي أن خطاب أبي بكر كان يدور حول محورين:
أ- بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة إلى الإسلام.
ب- بيان عاقبة الإصرار على الردة.
وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي:
* أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع دعوة الله.
* بيان أن الله بعث محمداً بالحق فمن أقر به كان مؤمناً، ومن أنكر كان كافراً يجاهد ويقاتل.
*
بيان أن محمداً بشر قد حق عليه قول الله: إنك ميت، وأن المؤمن لا يعبد
محمداً وإنما يعبد الله الحي الباقي الذي لا يموت أبداً، ولذلك لا عذر
لمرتد.
* إن
الرجوع عن الإسلام جهل بالحقيقة واستجابة لأمر الشيطان، وهذا يعني أن يتخذ
العدو صديقاً، وهو ظلم عظيم للنفس السوية، إذ يقودها صاحبها بذلك إلى
النار عن طواعية.
* إن
الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون والأنصار وتابعوهم هم الذين
ينهضون لقتال المرتدين غيرة منهم على دينهم، وحفاظاً عليه من أن يهان.
* إن
من رجع إلى الإسلام، وأقر بضلاله، وكف عن قتال المسلمين وعمل من الأعمال
ما يتطلبه دين الله، فهو من مجتمع المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم.
* إن
من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين، ويثبت على ردته، إنما هو محارب لابد من
شن الغارة عليه: تقتله أو تحرقه وتسبي نساءه وذراريه، ولن يعجز الله بأية
حال.
* إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة المسلمين أن يعلن فيهم الأذان، وإلا فالمعالجة بالقتال هي البديل.
وحتى
لا يترك الخليفة الأمر للقادة والجند بغير انضباط، كتب للقواد جميعاً
كتاباً واحداً، يدعوهم فيه إلى الالتزام بمضمون كتابه السابق، وهذا نصه:
" بسم
الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله لفلان حين بعثه
فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في
أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجدّ في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه،
ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية
ال